Nov 16, 2006

عـــودة فـارس الـكلمة

بعد طول غياب بسبب المرض اللعين وبعد ان من الله عليه بالشفاء اطل علينا الكاتب الكبير الدكتور احمد الربعي من خلال اول مقال صحفي بصحيفة القبس الكويتية , نهنئ الكاتب ونهنئ انفسنا بعدودتة ونتمني له دوام الصحة والتوفيق


بالمقلوب
أربعائيات: عودة القلم المتمرد

15/11/2006 ستة اشهر توقف فيها القلم عن الكتابة! ستة اشهر من المرض والغربة كنت اشعر فيها برغبة جامحة في الإمساك من جديد بالقلم! شهية الكتابة مفتوحة كالفضاء وكقلوب الاحبة! لكني كلما امسكت بالقلم، بين الصحوة والغفوة، يخرج المعلم الحكيم ليصرخ في وجهي: ايها الهائم المغترب لا تجزع! وتذكر.. انه 'كلما اتسعت الرؤية ضاقت العبارة'.. والحقيقة، ان تجربة الاشهر الستة الماضية مع غرفة العمليات، والممرضات، والشاش، والادوية، والمشارط، والمواعيد الطويلة كفراق العشاق قد أكدت رؤية المعلم. فقد اتسعت رؤيتي للانسان، وللحياة، وللالم، ولقراءة كتاب الكون المفتوح. لقد اتسعت الرؤية فضاقت العبارة. أمسك بالقلم فيتمرد كالحصان الجامح، وهو الذي كنت اعتقد انني قادر على ان امتطي صهوته برشاقة وخفة، أصبحت الكلمات القليلة النادرة كالعملة النادرة، تكفي وتزيد! وأحيانا يصبح الصمت، او ما يشبه الصمت، يكفي ويزيد!لقد ازددت قناعة خلال الاشهر الماضية بأن الحياة رحلة جميلة، إذا فهمنا المعادلة البسيطة، وهي أن الالم هو الوجه الآخر للسعادة، وأن المرض هو الوجه الآخر للصحة، وأن الحزن والانتظار الطويل والتعامل مع المجهول هي جزء من ضريبة الحياة التي نريد ان نعيشها بسعادة وطمأنينة. إن من الجنون ان نفقد بوصلة القناعة، وأن نستسلم للألم والمرض والمجهول. وإن من الغباء أن نعتقد بإمكان أن نفصل حياتنا على مقاييسنا الخاصة.لقد تألمت فتأملت، فازددت قناعة، منذ اللحظة التي بدأ فيها المخدر يتسلل الى الجسد لدخول غرفة العمليات، بأن هذه العلاقة السحرية بين الجسد والروح لا بد ان نستوعبها ونفهمها، فإذا نجحنا في تقوية ارواحنا في لحظات الحزن والمرض والانكسار، اصبحت اجسادنا اكثر قدرة على الاحتمال، واقوى بكثير مما نعتقد. ان الانسان هو الذي يقرر فهم هذه المعادلة بين الروح والجسد، بين ارادة التحدي ومشارط الأطباء وغرف العمليات ودفن الاحبة في المقابر، وبين إرادة السيطرة على الذات والتمسك بروح التفاؤل والابتسامة مكامن القوة الهائلة في داخله!في أجواء اختلط فيها مرض الجسد بمرض الغربة، كانت الاتصالات تنهال من كل جانب، الرسائل والفاكسات والزهور التي تملأ الغرفة. كان الشعور بأن الانسان ليس وحيدا، وبأن قلوب الاحبة، وحتى أولئك الذين لا يعرفهم، ودعواتهم تحيط به من كل جانب، يدفع الانسان الى الشعور بالقوة، وبالقدرة على المواجهة. لقد شعرت في لحظات كثيرة بأن هؤلاء يشاركونني بعض الألم. لقد تخيلت بعضهم وقد دخل معي الى غرفة العمليات. وفي لحظة نادرة جاءني ذلك المتمرد، سمعت خطى فرس أبي الطيب المتنبي كان يردد، وكنت أردد معه
وفي الأحباب مختص بوجد وآخر يدعي معه اشتراكا
إذا اشتبهت دموع في خدود تبين من بكى ممن تباكى
انها علاقة لا يعرف كنهها إلا الضالع بعلم المحبة، والعارف بعلاقة الاشتباك والاشتباه بين الخدود والدموع. وكنت أحمد الله ان كل من اتصل، وسأل، وصلى وتألم كان في قائمة الباكين لا المتباكين. انها القاعدة، قاعدة المحبة والانسانية التي لا تؤثر فيها الاستثناءات.لقد أكدت تجربة الاشهر الماضية صحة كل ما كنت أقوله لطلبتي طيلة السنوات الماضية، حين كنت أحرضهم على الحياة، احرضهم على ان يتحدوا الألم، وان يعيشوا الامل. احاول ان اشرح لهم، بلغة بسيطة، ان الخير هو القاعدة، وان الشر هو الاستثناء.. أن التفاؤل والتمسك بحبل الأمل هما القاعدة، وان التشاؤم والتبرم والجزع والحزن هي الاستثناء!لا أحد يستطيع ان يعالجك، حتى لو ذهبت الى اعظم الاطباء، اذا كنت ضعيفا مستسلما. لا احد يستطيع ان ينقذك من الحزن، حين تدفن أعز أحبابك، سوى روحك المشبعة بالقناعة، وبفهم المعادلة الدقيقة بين الروح والجسد! كثيرون يقتلون انفسهم بأنفسهم، ينتحرون ببطء حين يستسلمون للحزن وللألم. كثيرون سجناء واسرى لأرواحهم المضطربة، يرفعون راية الاستسلام امام اول هزة او مشكلة او كارثة، حتى لو كانت صغيرة!لا احد يستطيع ان يجعلك قويا، سوى ان تنظر في مرآة نفسك، وتتحدى ترددك وضعفك، وتنفخ الروح في كل ما هو انساني فيك.
تقوية الارواح هي القوة الحقيقية لشفاء الاجساد من الالم والحزن.نعود للقلم 'بنصف لياقة' كما يقول الرياضيون، لكنها العودة - البديل للتأمل والتألم دون المشاركة، محاولة متابعة ما يؤلم، وما أكثر ما يؤلم في وطننا الذي إذا تفرجت عليه حزنت، وإذا شاركت في احداثه ازددت حزنا
د. أحمد الربعي


0 comments: